خطبة بعنوان: من ذكريات شهر المولد النبوي الشريف نتعلم أن الزلازل لا تحدث لموت أحد ولا لحياته

 خطبة بعنوان: من ذكريات شهر المولد النبوي الشريف نتعلم أن الزلازل لا تحدث لموت أحد ولا لحياته

خطبة بعنوان: من ذكريات شهر المولد النبوي الشريف نتعلم أن الزلازل لا تحدث لموت أحد ولا لحياته
خطبة بعنوان: من ذكريات شهر المولد النبوي الشريف نتعلم أن الزلازل لا تحدث لموت أحد ولا لحياته

من ذكريات شهر المولد النبوي الشريف نتعلم أن الزلازل لا تحدث لموت أحد ولا لحياته


الْخُطْبَةُ الأُولَى


الحمد لله الذي أكرمنا بمولد مَنْ ختمت رسالتُه كلَّ الرسائل، وجعل الاقتداء به صلى الله عليه وسلم منبع المكارم والفضائل، ووقاية من المفاسد والرذائل، وأشهد أن لا إله إلا الله يمتحن الناس في الدنيا بالمصائب والزلازل؛ ليبلوكم أيكم أحسن عملا بالبراهين والدلائل، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي وحد الأمة بخالص التوحيد بعد كانت شتى الفرق والفصائل، فبين لنا أن الوحدة أفضل الطرق إلى النصر وأنجع الوسائل، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الذين كانوا في كل خير من الأوائل، وعلى التابعين لهم بإحسان من الصالحين الأفاضل...

أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون؛ أوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله وطاعته.

ها نحن في شهر ربيع الأول، شهر يحمل إلينا من عَبَق التاريخ ذكريات كثيرة تتعلق بسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ ففيه ولد صلى الله عليه وسلم، وفيه بدأ الوحي بالرؤيا المنامية، وفيه هاجر صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وفيه نزلت الآية التي حرمت الخمور والقمار، وفيه توفي إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه شرعت صلاة الكسوف، وفيه توفي النبي صلى الله عليه وسلم فالتحق بالرفيق الأعلى، علاوة على عدد من الغزوات؛ وقد جمع بعض العلماء هذه الأحداث في نظم ليسهل حفظها على الطلاب فقال:

فهاك أحـداثَ ربيـــــع الأول * من سيرة الهادي النبي المرسل

منها: الولادة وبدئ الوحـي * في النـوم بالــرؤيــــا إلـــى النبي

هجرته لطيبة وحرمـــــــــــت * فيــــــــــه الخمور مطلقا وأهرقت

وفيه غزوة بُوَاط وقعــــــت * وغزوة الغابــــة أيضــــــــا سُمعت

كذاك غزوة بني النضيــــــر * ودومـــةِ الجنـــــدل للتحــــــــــــــرير

وبعثُ خالــــد إلـــى نجــرانِ * فرحبـــــــوا بآخــــــــــــر الأديــــــــــــان

وفاةُ إبراهيم فيــه أَفْجَعَتْ * وركعتــــا الكســــوف فيـــه شُرِعَتْ

وفاتُه صلى عليــــه الباري * وآلــــــــه وصحبــــــــه الأخيـــــــــــار(1)

وهذه اثنا عشر واقعة حدثت من سيرة النبيصلى الله عليه وسلم نتذكرها اليوم في شهر ربيع الأول؛ بدأت بولادته صلى الله عليه وسلم وانتهت بوفاته صلى الله عليه وسلم؛ وفي هذا الخطبة لن أتحدث لكم عن مولده صلى الله عليه وسلم؛ بل سأخصصها للحديث عن الحَدَث العاشر والحادي عشر وهما: وفاة إبراهيم ابن النبيصلى الله عليه وسلم، وكسوف الشمس.

وذلك -يا عباد الله- لأن العالم قد مر عليه في الآونة الأخيرة أحداث جسام، ومصائب وفتن، وكوارث ومحن، اهتزت القلوب من أجلها، وتحيرت النفوس بسببها، واقشعرت الجلود خوفا منها: فالأعاصير إذا جاءت دمرت كل شيء بإذن ربها، والحروب حينما تَسْتـَعِر يحمى وطيسها، والأمراض الخطيرة حينما تنتشر ترتفع أرقامها، والزلازل تَـهُزُّ من الأرض هنا وهناك الجوانب والأطراف، فتخلف ضحايا تعد بالآلاف، في لحظات تعد بالثواني، 


وقد عشنا بعد مساء جمعة ما قبل الماضية زلزالا عنيفا جعل الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد؛ والمسلم مطالب بأخذ العبر والعظات والفوائد، مما يقع حوله من الأحداث والحوادث، فيتفاعل معها بما يفيده ويفيد غيره إيجابيا؛ والعاقل من أخذ العبرة من غيره، والغافل من كان عبرة لغيره.


وبسبب هذا الزلزال انبرى بعض الوعاظ عبر المواقع الاجتماعية يرفعون عقيرتهم، مُدَّعين بأن هذا الزلزال ما هو إلا نتيجة هذا الفساد الذي ساد في مجتمعنا، ما هو إلا نتيجة هذا الفسوق الذي انتشر فاستشرى؛ ومستدلين بمثل قوله تعالى: {وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}...


نعم هذه الجرائم منتشرة ومستشرية؛ من جرائم الأخلاق والسلوك والأعراض، التي تبدأ باختلاط العري والعار إلى زواج المثليين، ومن جرائم الأموال والأغراض، التي تبدأ من السرقات إلى إيذان الحرب مع الله تعالى بالربا وغبارها؛ لكن ليست هي سبب هذه الزلازل الطبيعية كما يقول هؤلاء الوعاظ الذين ضاقت آفاقهم وضلت آراهم؛ إذ لو كان الأمر كذلك لضرب هذا الزلزال أماكن هذه الفسوق؛ من الخمَّارت والقمَّارت والبارات والكزنهات، ودور الدعارة وكواليس الربويات؛ 


فلو ضرب الزلزال هذه الأماكن فحينئذ يمكن أن نقول: ربما هذا بما كسبت أيديهم؛ ولكن كل هذه الأماكن ظلت سليمة لم ينل منها الزلزال شيئا، وإنما ضرب منازل الفقراء وبيوت البسطاء الذين يلتزمون الصلوات ويحفظون القرآن الكريم ويحافظون عليه، وحجاب نسائهم وحياؤهن، وبناؤهم لمساجدهم شاهد على ذلك، وهذا هو ما كسبت أيديهم، وهذه المنطقة تعتبر خزانا لحملة القرآن الكريم، وهي المزود الرئيس للمدن القريبة لها بحملة القرآن (الطلبة)، ثم يأتي واعظ ليقول: إن الزلزال دمر منازلهم ومساجدهم لأنهم فاسقون مجاهرون بالفسق! 


فهذا رسول اللهصلى الله عليه وسلم حين مات ابنه الوحيد إبراهيم في مثل هذا الشهر شهر ربيع الأول انكسفت الشمس؛ فبادر بعض الناس يدَّعون أن سبب الكسوف هو موت إبراهيم؛ والنبيصلى الله عليه وسلم لم يكن انتهازيا يستغل الأحداث الكونية الطبيعية لصالحه، فنهر الذي قال ذلك وبين للناس حقيقة الأمر؛ فقالصلى الله عليه وسلم فيما روى البخاري ومسلم وغيرهما: «إن الشمس والقمر ‌آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد، ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله» وفي رواية: «فإذا رأيتم ذلك فصلُّوا وادعوا الله»، وفي رواية: «ولكنهما من آيات الله، يخوِّف الله بهما عباده».


نعم الأحداث الكونية هي تخويف وإنذار للناس إذا طغوا وبغوا كي يرجعوا إلى الله سبحانه وتعالى، ويراجعوا حسابتهم وأعمالهم؛ قال الله: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفا}؛ ولكن هذا لا يدل على أن سبب هذه الأحداث هو هذا الفساد السائد بعينه وهذا الفسوق المنتشر بنفسه؛ لأن هذه الزلازل والفيضانات والأعاصير والمصائب والفتن هي مثلُ الكسوف والخسوف لا تقع لموت أحد ولا لما يفعل في حياته من جرائم أو مكارم، ومن رذائل أو فضائل؛ وإنما هي آيات من آيات الله تعالى تدفعنا للتفكر والتدبر فيها؛ كيف وقعت لنرى فيها قدرته تعالى فنرجع إليه ونتوب؛ مصداقا لقوله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}

أيها الموجوعُ صبــــــرا * إنَّ بعد الصبـــــر بشرى

أيهـا الباكـــــي بِلَيــــــل * سوف يأتي النورُ فجرا

أيها المكسورُ قل لي: * هـــــــــل يديم الله كسرا؟

يا حزين القلب مهـــلا * إنَّ بعــــــد العســرِ يسرا

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين أجمعين والحمد لله رب العالمين...

 

الخطبة الثّانية:

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أشْرَفِ الأنبياءِ وإمامِ المُرْسَلين ، وعلى آلِ بَيْتِهِ الطاهِرين ، وأزْواجِهِ أمَّهاتِ المُؤْمِنين ، وعلى التابِعينَ لهُمْ بِإحْسانٍ إلى يَوْمِ الدِّينِ .

 

أما بعد فيا أيها الاخوة المؤمنون؛ لُبُّ العِبَر وروحها وفائدتها من مثل هذه الزلازل هو التوبة النصوح؛ فما أحرى من عاش تلك اللحظات المخيفة أن يتوب إلى الله تعالى فيغير من حاله لصالح مآله، وما أجدر بأولئك الذين فروا يومئذ من المنازل إلى الساحات تائهين حائرين كالسكارى وما هو بسكرى أن يغيروا أعمالهم وسلوكهم من سيء إلى حسن، ومن حسن إلى أحسن؛ قال الله تعالى: {ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَيَوٰةَ لِيَبۡلُوَكُمۡ أَيُّكُمۡ ‌أَحۡسَنُ ‌عَمَلٗا}؛ 


فالتوبة ليست مجرد كلمات نرددها بألسنتنا في الوقت الذي كنا فيه متلبسين بكثرة المعاصي في أعمالنا وأموالنا؛ فالتوبة النصوح هي التي تنبع من القلوب لِتَنْطِق بها الألسنة «ربي ‌اغفر ‌وتب علي إنك أنت التواب الغفور»، ولِتَنْطَلِق إلى إحداث تغيير جذري في أعمالنا وأحوالنا وأموالنا؛ من أجل إنقاذ أنفسنا من براتين الحرام إلى فسحة الحلال، والله تعالى يقول: {إِنَّ ٱللَّهَ ‌لَا ‌يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡ}؛ 


فالتوبة بالقلب واللسان دون تغير في الجوارح والأعمال هي نقصان وقصور وفسوق، وأقبح منه التوبة باللسان فقط دون القلب والعمل إذ هو كذب ونفاق...

ألا فاتقوا الله عباد الله وأكثروا من الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم… 

الخطيب الفقيه ذ. عبد الله بنطاهر
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-