الخطب الفاشلة


        الخطب الفاشلة 
بسم الله الرحمن الرحيم 
والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين. 
  تعلمون أن منبر الجمعة هي فرصة للدعاة كل أسبوع لتوجيه الخطاب إلى جماهير المسلمين ووعظهم وإرشادهم إلى ما فيه صلاح دينهم ودنياهم وآخرتهم،وهي فرصة متسلسة ودائمة لتوعية الناس بأمور دينهم، وبث روح الإسلام وأخلاقه في قلوبهم ونفوسهم، غير أن الخطب تختلف والأساليب تتباين، ومناهج الوعاظ والخطباء متنوعة، وذلك ما يجعل الخطب مختلفة في درجة التأثير ونوعه وموضعه، فمنها ما هي ناجحة بفضل الله وبفضل المناهج السليمة المتعتمد عليها في تلك الخطب ، ومنها ما هي أقرب إلى الفشل منها إلى النجاح-إن لم نقل هي فاشلة تماما - وذلك لاتخاذ أصحابها أساليب غير سليمة، واختيار المواضيع الأقل أهمية على المواضيع ذات الأهمية الكبيرة في واقعنا ومجتمعاتنا التي يؤسف لها، من جهة الأخلاق والمعاملات وغيرها. 
  وحديثنا في هذه الأسطر اليسيرة سيكون على نوع من الأساليب الفاشلة بعينها - دون التطرق إلى إلى الأنواع الأخرى اجتنابا للطول لكن. قد تكون لنا وقفة أخرى معها - وهذا النوع من الأساليب الذي سنشير إليه هنا يستخدمه كثير من الخطباء، وهو في الحقيقة أسلوب غير ناجح وغير سليم، لأنه يخالف منهج القرآن الكريم ومنهج الحديث النبوي الشريف في الوعظ والتذكير والإرشاد. وهذا الأسلوب هو أسلوب "الترهيب والتخويف ". وأقصد بالترهيب هنا الترهيب المبالغ فيه، والذي لا يتخلله ترغيب وتطمين، ولا يأتيان قبله ولا بعده. 
  وهذا النوع من الخطاب مخالف لنهج القرآن - كما سبق أن أشرت - ومخالف لنهج النبي صلى الله عليه وسلم في وعظه وتذكيره وخطابه، فلو تصفحنا القرآن الكريم لوجدنا أنه دائما يمزج بين الترغيب والترهيب، ويقرن بين التخويف والتبشير، فيكون الخطاب متوازنا معتدلا ويترك أثره في نفس سامعه وقارئه بإذن ربه. خذ على سبيل المثال قول الله تعالى " نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم" وانظر كيف رغب ورهب في نفس الآية والسياق، بل قدم سبحانة البشارة على النذارة، ونفس الشيئ في قوله سبحانه " ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلاث وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب " 
  ويقول الله تعالى في موضع آخر" وهو الذي جعلكم خلائف الارض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما ءاتاكم إِن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم ". هذه الآيات ذكرناها على سبيل التمثيل لا الحصر ، وإلا فمن تصفح القرآن وجد آيات وسياقات كثيرة جدا تعزز ما قلناه وتقويه . 
  لكن قد يقول قائل أن القرآن الكريم في مواضع عدة يذكر الوعيد دون الوعد والعقاب دون الثواب، ونجيب أن ذلك من المستثنيات، وهي مواضع يخبرنا الله تعالى فيها - غالبا - بأعمال قوم سبقوا ثم يذكر العقوبة التي حلت بهم أو الجزاء الذي ينتظرهم، أو يذكر الله عز وجل معصية من المعاصي ثم يذكر الجزاء الذي يستحق صاحبها، ونمثل على تلك المواضيع بما يلي : 
  يقول الله عز وجل " فأما عاد فاستكبروا في الارض بغير حق وقالوا من اشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بئاياتنا يجحدون فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الغزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون" فهنا يذكر الله تعالى قوم نبيه هود وتكذيبهم له وجحودهم لما جاء به من الحق ويخبرنا بما حل بهم، فغير سليم أن يذكر قوما عصوه وجحدوه ثم يذكر ما أنزل عليهم بسبب عصيانهم مع ثوابهم ولا ثواب لهم أصلا! 
  والمثال الثاني : يقول الله تعالى" ومن اعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا" هنا يذكر الله عز وجل معصية كبيرة وهي الاعراض عن ذكره، ويخبرنا بعقوبة من وقع فيها، وهي أن يعيشه في الضنك في الدنيا ويحشره يوم القيامة أعمى. 
ونجيب أيضا بأن من يقرأ القرآن الكريم سيمر ولا شك على آيات تذكر الثواب وأخرى تذكر العقاب، وآيات تنذر وأخرى تبشر، قد يجد ذلك في سياق واحد وقد يجد أحدهما هنا والآخر هناك، وقد يجد الأول في هذه الصفحة والثاني في التي بعدها وهكذا يرى القارئ كلا الأمرين ويقرأ الخطابين معا. 
  إن أسلوب الترهيب الذي يسلكه كثير من الخطباء والوعاظ أسلوب لا يثمر ونهج لا يؤتي أكله، صحيح أن من يستمع إلى تلك الخطب الرنانة والكلمات المهددة والخطابات المرعبة يتأثر وهو يسمع، وقد يرتعد ويدمع، ولكن العبرة كم يدوم هذا التأثر وما نتيجته وثمرته، إنه لا يدوم طويلا ولا يثمر صحيحا، فقد يسمع الإنسان عن عذاب القبر وضمته في مجلس من المجالس ثم بعد انفضاض المجلس يسمع الأذان ولا يلبي، وقد يتأثر الشاب بمقاطع تصله على الواتساب لكنه لا يصلي ولا يحدث نفسه - صادقا- بالصلاة، صحيح أن هذه المسألة لا تخص هذا النوع من الخطاب فقط، ولكننا أوردناها هنا لنبين أن العبرة ليست في أن نتأثر ونحن نستمع، ولكن العبرة أن يبقى ما سمعناه يهمس في آذاننا حينا بعد حين. 
  إننا لو أردنا أن نعد الأحاديث التي تتحدث عن تارك الصلاة وعقوبته، وما يلحقه من ألم في قبره لوجدناها قليلة بالمقارنة مع الأحاديث التي تتحدث عن ثواب الصلاة وفضل رفع الأقدام إلى الجماعات وفضل التعلق بالمساجد واسباغ الوضوء على المكاره من أجل الصلاة، وهنا يتجلى لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعمل أسلوب التحبيب والترغيب أكثر من أسلوب التخويف والترهيب، فما أحوجنا في واقعنا إلى هذا النهج القرآني والأسلوب النبوي، لاسيما أن أكثر الناس لا يعلمون لذة الذكر ولا يعرفون كنوز الصلاة، ولا يدركون حلاوة تلاوة القرآن والاستغفار والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والتسبيح وغيرها من الأذكار. 
إننا بحاجة إلى من يحبب لنا الإيمان ويذكرنا بثواب الأخلاق،ويعيننا على تذوق حلاوة الذكر، ولهذا نهيب بالخطباء والوعاظ أن يغيروا أساليب الوعظ التي لا تسمن ضعيفا ولا تغني جائعا ولا تروي ظمآنا. وهذه الأساليب كثيرة، ذكرنا في هذه الأسطر نوع واحد منها وهو أسلوب الترهيب، ونرجوا أن نعود مرة أخرى ونذكر أساليب أخرى من هذه الأساليب التي يجب العدول عنها إلى أفضل منها وأقوم. والحمد لله أولا وآخرا والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
  بقلم: ذ. يوسف ورزوق
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-