خطبة منبرية بعنوان: العطاء في سبيل الله أنواعه ومجالاته وفوائده 2 (تسديد التبليغ)

خطبة منبرية بعنوان: العطاء في سبيل الله أنواعه ومجالاته وفوائده 2

خطبة منبرية بعنوان: العطاء في سبيل الله أنواعه ومجالاته وفوائده 2 (تسديد التبليغ)


بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه

خطبة منبرية في موضوع: «العطاء في سبيل الله أنواعه ومجالاته وفوائده»

ليوم: الجمعة 16 ذي الحجة 1446 هـ الموافق لـ 13 يونيو 2025م

الخطبة الأولى

 الحمد لله حمدا يكافئ نعمه وعطاياه، والشكر له على ما وهب لخلقه وبراياه، وعلى ما خص به الإنسانَ من مزيد الإكرام حسب عمله ونواياه، ونشهد أن لا إله إلا الله المجزئ عن الفتيل والنقير والقطمير، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله البشير النذير، صلى الله وسلم عليه وعلى آله الطيبين الأطهار، وصحابته الغر الميامين الأبرار، وعلى التابعين لهم بإحسان في العشي والإبكار.

 أما بعد، فيا معاشر المؤمنين والمؤمنات؛ فقد تقدم في الخطبة الماضية الحديث عن العطاء المادي وفضله، ليأتي الحديث اليوم عن العطاء اللامادي، وهو كثير الأنواع ومتعدد الوجوه والمجالات، ويكون بالأقوال والأفعال والنيات، ويجمعها بذل المنافع وكف المضار وجلب المصالح ودفع المفاسد.

يقول النبي ﷺ: «يصبح على كل سُلَامَى-أي كل مفصل من مفاصل جسم الإنسان- من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى»[1].
 وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه: أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور-أي أهل الأموال- بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم. قال: " أوليس قد جعل الله لكم ما تَصَدَّقُون؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمرٌ بالمعروف صدقة، ونهيٌ عن منكر صدقة، وفي بُضْع أحدكم صدقة". قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته، ويكونُ له فيها أجر؟ قال: «أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر»[2]. انتهى الحديث والبضع الجماع بين الأزواج. ويقولﷺ: "كل معروف صدقة"[3].

 عباد الله، انطلاقا من هذه النصوص النبوية الجامعة يتضح لنا أن العطاء ليس محصورا في المال وحده، وإنما يسري على كل أعمال البر ويشمل بذلك النيات والأقوال والأفعال التي ينفع بها المؤمن غيره من الناس وسائر الكائنات المختلفة، ويدخل فيه كذلك مساعدة الناس في أمورهم وقضاء حوائجهم، ويتجلى أيضا في احترام البيئة؛ لقوله ﷺ: "يميط الأذى عن الطريق صدقة"[4] . وسقي الحيوانات والطيور وغيرها، لما ورد عن النبي ﷺ: "أن رجلا سقى كلبا فشكر الله له فغفر الله له"[5]

 والعفة وجه من أوجه الصدقة، قال رسول الله ﷺ: "وفي بضع أحدكم صدقة"[6].
 وأوصى النبي ﷺ أمته بالغرس والمحافظة عليه لما فيه من الأجر والعطاء، ولو لم يرج صاحبه أن يأكل من ثماره، قال ﷺ: "إن قامت الساعة، وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها"[7].

 أيها الإخوة المؤمنون والأخوات المؤمنات؛ هذا هو دين الإسلام، وهذه هي شريعته القائمة على العبودية لله تعالى وعلى دفع المفاسد وجلب المصالح للعباد.
 إن الأمثلة التي ذكرت في العطاء والصدقات والجود، هي من باب التعبير بالأدنى عن الأعلى؛ أما أبواب العطاء المعنوي الكبرى فتتجلى في المنافع الآتية:

أولا: تعليم الناس أمور دينهم، فالتعليم من أجلِّ العطايا والصدقات وهو نيابة عن الرسول ﷺ في إخراج الناس من الظلمات إلى النور. يقول النبي ﷺ: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه"[8].
 ومعلم الناس الخير في أعلى مراتب المنفقين، ولا سيما إن أخلص النية وجمع للناس بين التعليم والأدب الحسن منها قول النبي ﷺ في حق الوالد "ما نحل والد ولده أفضلَ من أدب حسن"[9].

ثانيا: إن من أعظم القربات وأجل العطايا والصدقات أن يحرص كل مشتغل بعمل على إتقانه وتدبير أمره تدبيرا حسنا ليحصل النفع للفرد والجماعة، لقول النبي ﷺ: "أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس"[10]. وهذا يسري على كل من تحمل مسؤولية من مسؤوليات الأمة جلَّت أو قلَّت، من حراسة دينها أو حدودها أو سياسة أمورها أو تدبير شؤونها أو معالجة مريضها أو تعليم جاهلها أو غير ذلك من السهر على قضاء حوائج العباد.
 نفعنا الله وإياكم بسر كتابه، ووقانا وإياكم من عذابه، وجعلنا من الواقفين على بابه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية

 الحمد لله ولي الصالحين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد إمام المتقين، وعلى آله وصحبه الهداة المهتدين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
 أيها الإخوة المؤمنون والأخوات المؤمنات؛ إن من أجلّ العطايا وأهمها كذلك رعايةَ حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة، المرعيةِ شرعا وعقلا وأخلاقا؛ لقول النبي ﷺ: «أيها الناس، إنكم منفرون، فمن صلى بالناس فليخفف، فإن فيهم المريض، والضعيف، وذا الحاجة»[11]. هذا الحديث يدل على وجوب مراعاة حقوق ذوي الحاجة حتى في العبادة والوقوف بين يدي الله تعالى، لتسري هذه الرعاية على المعاملات والسلوك وسائر التصرفات.
  •  ومن هذه الحقوق والعطايا: إشعار ذوي الاحتياجات الخاصة بكمال إنسانيتهم، وأن لهم من الحقوق مثل ما لغيرهم من الناس، وأن ما أصابهم من الابتلاء يقابله عفو الله عنهم بعدم التكليف لهم بما لا يطاق؛ إذ ما عجز عنه المسلم من الشرائع يسقط عنه، وأن الله جعل لهم من الأجر مثل ما لغيرهم، مع الصبر على البلاء والاحتساب عند الله تعالى.
  • ومنها: حقهم في التعلم والكسب وإبداء الرأي والمشاركة في الشأن العام وسائر الحقوق التي يتمتع بها غيرهم من المواطنين.
  • ومنها: مساعدتُهم في تنمية مواهبهم وإبرازها، وتشجيعُهم على استثمارها والاعتزازِ بها؛ إذ قد تكون لبعضهم مواهب يعز نظيرها عند غيرهم من الأسوياء.
  • ومنها: عدم الازدراء بهم والنظر إليهم نظرة نقص وسخرية، لما جعل الدين من الوعيد على ذلك.
  • ومنها: إعطاؤهم الأولوية في قضاء حوائجهم وتقديم الخدمات لهم، وذلك من أفضل القربات، ومن أجمل صنائع المعروف التي تعود على صاحبها بالنفع في الدنيا والآخرة، كما قال النبي ﷺ: "صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، وَصَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ"[12].

ويجمع، عبادَ الله، كثيرا من هذه الأنواع قولُ النبي ﷺ: «تبسمك في وجه أخيك لك صدقة، وأمرُك بالمعروف ونهيُك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وبصَرُك للرجل الرديء البصر لك صدقة- أي مساعدة الرجل الكفيف للوصول إلى حاجته صدقة- وإماطتك الحجرَ والشوكةَ والعظمَ عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة»[13].

 هذا وصلوا وسلموا، عبادَ الله، على معلم الناس الخير النبي المعطاء، والسراج الوضاء، خاتم الرسل والأنبياء سيدنا محمد صاحب الحوض واللواء، فاللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد بما هو أهله، وخيرٍ مما هو أهله، وارض اللهم عن آله الشرفاء، وصحابته الأصفياء، وخصوصا الأربعة الخلفاء، ساداتنا الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحب أجمعين.
 وانصر اللهم من وليته أمر عبادك المؤمنين، عبدك الخاضع لجلالك وسلطانك، المؤيد بعظيم فضلك وجميل نصرك، مولانا أمير المؤمنين جلالة الملك محمدا السادس، اللهم احفظه في كنفك الذي لا يضام، واكلأه بعينك التي لا تنام، وأقر عين جلالته بولي عهده المشمول بعز عنايتك، صاحب السمو الملكي الأمير الجليل مولانا الحسن، مشدود الأزر بصنوه السعيد، مولانا رشيد، وبباقي أفراد الأسرة الملكية الشريفة، إنك سميع مجيب.
 وارحم اللهم الملكين المجاهدين مولانا محمدا الخامس، ومولانا الحسن الثاني، اللهم طيب ثراهما، وأكرم مثواهما، واجعلهما في مقعد صدق عندك.
 اللهم ألهمنا الرشد والصواب في القول والعمل، واجعلنا هداة مهديين، متمسكين بهدي نبيك محمد ﷺ إلى أن نلقاك وأنت راض عنا.
 اللهم ارحمنا وارحم والدينا وارحم موتانا وموتى المسلمين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
 ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
 سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
..........................................................................
[1] - صحيح مسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة الضحى 1/498. رقم الحديث بمنصة محمد السادس للحديث النبوي الشريف1014.
[2] - صحيح مسلم كتاب الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف 2/697. رقم الحديث بالمنصة 1494.
[3] - المصدر نفسه بالباب والصفحة. رقم الحديث بالمنصة1493.
[4] - صحيح البخاري كتاب المظالم، باب إماطة الأذى 3/133.
[5] - الموطأ بمعناه، كتاب صفة النبي ﷺ، باب جامع ما جاء في الطعام والشراب 2/929. رقم الحديث بالمنصة 5843.
[6] - صحيح مسلم كتاب الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف 2/697. رقم الحديث بالمنصة 1494.
[7] - الأدب المفرد للبخاري باب اصطناع المعروف، 1/242.
[8] - صحيح البخاري كتاب فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه، 6/192. رقم الحديث بالمنصة 11125.
[9] - المستدرك كتاب الأدب، 4/292.
[10] - معجم الطبراني الكبير، عمرو بن دينار عن ابن عمر 12/453. رقم الحديث بالمنصة 11205.
[11] - صحيح البخاري، كتاب العلم باب الغضب في الموعظة والتعليم 1/30. رقم الحديث بالمنصة 11804.
[12] - المعجم الكبير للطبراني، عبد الرحمن أبو زيد عن أبي أمامة 8/261. رقم الحديث بالمنصة 9041.
[13] - سنن الترمذي، أبواب البر والصلة باب ما جاء في صنائع المعروف4/339.
Comments