خطبة عن بر الوالدين وتحريم عقوقهما.

 خطبة عن بر الوالدين وتحريم عقوقهما.

خطبة عن بر الوالدين وتحريم عقوقهما.
خطبة عن بر الوالدين وتحريم عقوقهما.

خطبة عن بر الوالدين وتحريم عقوقهما

عناصر الخطبة:

  • ارتباط بر الوالدين بتوحيد الله عز وجل.
  • ببر الوالدين أمر إلهي كتب على جميع الأمم 
  • بر الوالدين متعلق بما يرضي الابن وما لا يرضيه.
  • شروط بر الوالدين.
  • بر الوالدين مقدم على إرضاء الزوجة.
  • نموذج من بر الوالدين بر إبراهيم عليه السلام بأبيه


اقتباس من الخطبة:

  • أَحْمَدُهُ وَهُوَ الْغَفُورُ الشَّكُورُ، أَمَرَ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَحَذَّرَ وَنَهَى عَنِ الْعُقُوقِ..
  • مَا أَعْظَمَ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ حِينَ يُقَابِلُ أَبَاهُ الْغَاضِبَ الثَّائِرَ بِالْهُدُوءِ، وَضَبْطِ الأَعْصَابِ، وَالأَنَاةِ..


الخطبة الأولى:

 الْحَمْدُ لله الَّذِي حَذَّرَنَا مِنْ دَارِ الْغُرُورِ، وَأَمَرَنَا بِالاَسْتِعْدَادِ لِيَوْمِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، أَحْمَدُهُ وَهُوَ الْغَفُورُ الشَّكُورُ، أَمَرَ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَحَذَّرَ وَنَهَى عَنِ الْعُقُوقِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صلى الله عليه وسلم وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ. 

أَمَّا بَعْدُ:

 عِبَادَ الله: إِنَّ رِضَا الله فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ، يَشْهَدُ لِذَلِكَ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ مِنْ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، فِيهَا الأَمْرُ بِعِبَادَةِ الله وَحْدَهُ، مَقْرُونًا بِهَا الإِحْسَانُ إِلَى الْوَالِدَيْنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) [سورة النِّسَاءِ الىية: 36]، وَقَوْلِهِ: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) [سورة الإِسْرَاءِ الآية: 23]، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَا بَيْنَهُمَا مِنْ تَلازُمٍ وَارْتِبَاطٍ، إِذْ لاَ تَتَحَقَّقُ الْعِبَادَةُ مَعَ الْعُقُوقِ، وَلَا يُغْنِي الإِحْسَانُ إِلَى الْوَالِدَيْنِ مَعَ الإِشْرَاكِ؛ لأَنَّ حَقِيقَةَ الْعِبَادَةِ هِيَ: الْمَحَبَّةُ مَعَ الذُّلِّ وَالْخُضُوعِ لله تَعَالَى، وَالامْتِثَالُ وَالطَّاعَةُ، وَلاَ تَحْصُلُ حَقِيقَةُ الْعِبَادَةِ إِلاَّ بِهِمَا، فَالْعُقُوقُ عِصْيَانٌ وَاسْتِكْبَارٌ، فَهُوَ نَقْصٌ فِي حَقِيقَةِ الْعِبَادَةِ، وَمَعْنَاهَا كَمَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي أَصْحَابِ الأَعْرَافِ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ) [سورة الأَعْرَافِ الآية: 46]. 

 وَإِلَى هَذَا يُشِيرُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فِيمَا رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ مُرَّةَ الْجُهَنِيُّ -رَضِيَ الله عَنْهُ- أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، شَهِدْتُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ الله، وَصَلَّيْتُ الْخَمْسَ، وَأَدَّيْتُ زَكَاةَ مَالِي، وَصُمْتُ رَمَضَانَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ مَاتَ عَلَى هَذَا كَانَ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَكَذَا -وَنَصَبَ أُصْبُعَيْهِ- مَا لَمْ يَعُقَّ وَالِدَيْهِ". [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ]. 

 وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: ثَلاَثُ آيَاتٍ نَزَلَتْ مَقْرُونَةً بِثَلاَثٍ لاَ تُقْبَلُ مِنْهَا وَاحِدَةٌ بِغَيْرِ قَرِينَتِهَا: إِحْدَاهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) [سورة الْمَائِدَةِ الآية: 92]، فَمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَلَمْ يُطِعِ الرَّسُولَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ. الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) [سورة الْبَقَرَةِ الآية: 43]، فَمَنْ صَلَّى وَلَمْ يُزَكِّ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ. الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ) [سورة الرَّعْدِ الآية: 14]، فَمَنَ شَكَرَ اللَّهَ وَلَمْ يَشْكُرِ الْوَالِدَيْنِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ. 


 وَلَيْسَ الأَمْرُ بِالإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ مِنْ خُصُوصِيَّاتِ هَذِهِ الأُمَّةِ فَحَسْبُ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ إِلَهِيٌّ مُتَقَدِّمٌ، كَتَبَهُ الله عَلَى الأُمَمِ الَّتِي قَبْلَنَا كَمَا قَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) [سورة الْبَقَرَةِ الآية: 83]، كَمَا أَثْنَى الله تَعَالَى عَلَى الأَنْبِيَاءِ عليهم الصلاة والسلام، وَخَصَّ بِالذِّكْرِ مِنْهُمْ يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلامُ لأَنَّهُ كَانَ بَارًّا بِوَالِدَيْهِ عَلَى كِبَرِ سِنِّهِمَا؛ فَالْبِرُّ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ أَعْظَمُ مِنْهُ فِي غَيْرِهِ، وَالْحَاجَةُ لا تَتَحَقَّقُ إِلاَّ فِي سِنِّ الشَّيْخُوخَةِ وَالضَّعْفِ: (وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا) [سورة مَرْيَمَ الآية: 14]، كَمَا ذَكَرَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ لِتَفَانِيهِ فِي خِدْمَةِ أُمِّهِ، وَاعْتِزَازِهِ بِبِرِّهَا، وَاعْتِرَافِهِ بِفَضْلِهَا، وَخَفْضِهِ لَهَا: (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) [سورة مَرْيَمَ الآية: 32]. 

 

وَالأَمْرُ بِالإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ عَامٌّ مُطْلَقٌ، يَنْطَوِي تَحْتَهُ مَا يُرْضِي الابْنَ وَمَا لاَ يُرْضِيهِ، مِنْ غَيْرِ احْتِجَاجٍ، وَلاَ جِدَالٍ، وَلاَ مُنَاقَشَةٍ، وَهَذَا أَمْرٌ مُهِمٌّ جِدًّا، يَجِبُ الانْتِبَاهُ إِلَيْهِ؛ لأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَبْنَاءِ يَغْفُلُونَ عَنْهُ؛ إِذْ يَحْسَبُونَ أَنَّ الْبِرَّ فِيمَا يُعْجِبُهُمْ وَيُوَافِقُ رَغَبَاتِهِمْ، وَالْحَقِيقَةُ عَلَى خِلاَفِ ذَلِكَ وَعَكْسِهِ، فَالْبِرُّ لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِيمَا يُخَالِفُ هَوَىَ الابْنِ، وَمُيُولَهُ، وَلَوْ كَانَ فِيمَا يُوَافِقُ هَوَاهُ لَمْ يُسَمَّ بَارًّا، لِمَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الإِيمَانِ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الأَدَبِ الْمُفْرَدِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ لَهُ وَالِدَانِ مُسْلِمَانِ، يُصْبِحُ إِلَيْهِمَا مُحْتَسِبًا، إِلاَّ فَتَحَ الله لَهُ بَابَيْنِ -يَعْنِي مِنَ الْجَنَّةِ- وَإِنْ كَانَ وَاحِدٌ فَوَاحِدٌ، وَإِنْ أَغْضَبَ أَحَدَهُمَا لَمْ يَرْضَ اللهُ عَنْهُ حَتَّى يَرْضَى عَنْهُ، قِيلَ: وَإِنْ ظَلَمَاهُ. قَالَ: وَإِنْ ظَلَمَاهُ». 

 وَشُرُوطُ بِرِّ الوالدين ثَلاَثَةٌ:

  1. الشرط الأَوَّلُ: أَنْ يُؤْثِرَ الْوَلَدُ رِضَا وَالِدَيْهِ عَلَى رِضَا نَفْسِهِ، وَزَوْجَتِهِ، وَأَوْلاَدِهِ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ.
  2. الشرط الثَّانِي: أَنْ يُطِيعَهُمَا فِي كُلِّ مَا يَأْمُرَانِ بِهِ، وَيَنْهَيَانِهِ عَنْهُ، سَوَاءٌ وَافَقَ رَغَبَتَهُ، أَمْ لَمْ يُوَافِقْهَا، مَا لَمْ يَأْمُرَاهُ بِمَعْصِيَةِ الله تَعَالَى.
  3. الشرط الثَّالِثُ: أَنْ يُقَدِّمَ لَهُمَا كُلَّ مَا يَلْحَظُ أَنَّهُمَا يَرْغَبَانِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَطْلُبَاهُ مِنْهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ وَسُرُورٍ، مَعَ شُعُورِهِ بِتَقْصِيرِهِ فِي حَقِّهِمَا، وَلَوْ بَذَلَ لَهُمَا مَالَهُ كُلَّهُ.


 عِبَادَ الله: رِضَا الْوَالِدَيْنِ مُقَدَّمٌ عَلَى رِضَا الزَّوْجَةِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُكْرِمُ زَوْجَتَهُ ظَانًّا فِيهَا مُنْتَهَى الْوَفَاءِ، وَيُهِينُ أُمَّهُ نَاظِرًا إِلَيْهَا نَظْرَةَ الْعَدَاءِ، رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ الله عَنْهُمَا- قَالَ: كَانَتْ تَحْتِي امْرَأَةٌ، وَكُنْتُ أُحِبُّهَا، وَكَانَ عُمَرُ يَكْرَهُهَا، فَقَالَ لِي: طَلِّقْهَا، فَأَبَيْتُ، فَأَتَى عُمَرُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "طَلِّقْهَا".

 وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ الله عَنْهُ- قَالَ: "كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الإِسْلاَمِ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ، فَدَعَوْتُهَا يَوْمًا فَسَمَّعَتْنِي فِي رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- مَا أَكْرَهُ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أَبْكِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله: إِنِّي كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الإِسْلاَمِ فَتَأْبَى عَلَيَّ، فَدَعَوْتُهَا الْيَوْمَ فَأَسْمَعَتْنِي فِيكَ مَا أَكْرَهُ، فَادْعُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَهْدِيَ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ اهْدِ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَخَرَجْتُ مُسْتَبْشِرًا بِدَعْوَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا جِئْتُ فَصِرْتُ إِلَى الْبَابِ وَقَرُبْتُ مِنْهُ، فَإِذَا هُوَ مُجَافٌ، فَسَمِعَتْ أُمِّي خَشْفَ قَدَمَيَّ فَقَالَتْ: مَكَانَكَ -أَبَا هُرَيْرَةَ- وَسَمَعِتُ خَضْخَضَةَ الْمَاءِ فَاغْتَسَلَتْ، وَلَبِسَتْ دِرْعَهَا، وَعَجِلَتْ عَنْ خِمَارِهَا، فَفَتَحَتِ الْبَابَ، ثُمَّ قَالَتْ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَأَتَيْتُهُ وَأَنَا أَبْكِي مِنَ الْفَرَحِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله: أَبْشِرْ، فَقَدِ اسْتَجَابَ الله دَعْوَتَكَ، وَهَدَى أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ خَيْرًا". [رَوَاهُ الإمام مُسْلِمٌ]. 


 وَفِي الأَدَبِ الْمُفْرَدِ، قَالَ: كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ إِذَا دَخَلَ إِلَى أَرْضِهِ بِالْعَقِيقِ صَاحَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ، السَّلاَمُ عَلَيْكِ وَرَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ يَا أُمَّاهُ، فَتَقُولُ: وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ، فَيَقُولُ: رَحِمَكِ الله كَمَا رَبَّيْتِنِي صَغِيرًا، فَتَقُولُ: يَا بُنَيَّ: وَأَنْتَ فَجَزَاكَ الله خَيْرًا، وَرَضِيَ الله عَنْكَ كَمَا بَرَرْتَنِي كَبِيرًا. 

 وَهَذَا أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ، عَاصَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَلَكِنَّهُ لَمْ يَرَهُ، فَآمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ، وَتَمَنَّى أَنْ يُهَاجِرَ إِلَيْهِ فِي الْمَدِينَةِ، غَيْرَ أَنَّ اهْتِمَامَهُ بِخِدْمَةِ أُمِّهِ أَقْعَدَهُ عَنِ الْهِجْرَةِ الْمُبَارَكَةِ، لأَنَّهُ طَمِعَ فِي مُرَافَقَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِي الْجَنَّةِ بِسَبَبِ بِرِّهِ بِأُمِّهِ وَانْصِرَافِهِ إِلَى خِدْمَتِهَا وَلَوْ فَاتَتْهُ الصُّحْبَةُ الشَّرِيفَةُ فِي الدُّنْيَا وَرُؤْيَةُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أُسَيْرِ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِذَا أَتَى عَلَيْهِ أَمْدَادُ أَهْلِ الْيَمَنِ سَأَلَهُمْ: أَفِيكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟! حَتَّى أَتَى عَلَى أُوَيْسٍ، فَقَالَ: أَنْتَ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟! قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مِنْ مُرَادٍ؟! قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: ثُمَّ مِنْ قَرْنٍ؟! قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَكَانَ بِكَ بَرَصٌ فَبَرَأْتَ إِلاَّ مَوْضِعَ دِرْهَمٍ؟! قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: لَكَ وَالِدَةٌ؟! قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ، مِنْ مُرَادٍ، ثُمَّ مِنْ قَرْنٍ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلاَّ مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى الله لأَبَرَّهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ"، فَاسْتَغْفِرْ لِي، فَاسْتَغَفَرَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَيْنَ تُرِيدُ؟! قَالَ: الْكُوفَةُ، قَالَ: أَلاَ أَكْتُبُ لَكَ إِلَى عَامِلِهَا؟! قَالَ: أَكُونُ فِي غَبْرَاءِ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيَّ... الْحَدِيثَ.

إِنَّ عُمَرَ -رَضِيَ الله عَنْهُ- أَفْضَلُ مِنْ أُوَيْسٍ وَلاَ شَكَّ، غَيْرَ أَنَّ وَصِيَّةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ أَنْ يَطْلُبَ مِنْ أُوَيْسٍ الاسْتِغْفَارَ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِ أُوَيْسٍ، وَعُلُوِّ مَقَامِهِ عِنْدَ الله تَعَالَى، حَتَّى أَنَّهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى الله لأَبَرَّ قَسَمَهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ لِبِرِّهِ بِأُمِّهِ، وَزُهْدِهِ فِي الدُّنْيَا وَإِعْرَاضِهِ عَنْهَا. وَرَوَى عَبْدُ الرَّازِقِ فِي الْمُصَنَّفِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ -وَهُوَ مُرْسَلٌ- عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ مُوسَى وَأَبُو عَامِرٍ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَبَايَعُوهُ وَأَسْلَمُوا قَالَ: "مَا فَعَلَتِ امْرَأَةٌ مِنْكُمْ تُدْعَى كَذَا وَكَذَا؟!" قَالُوا: تَرَكْنَاهَا فِي أَهْلِهَا، قَالَ: "فَإِنَّهَا قَدْ غُفِرَ لَهَا"، قَالُوا: بِمَ يَا رَسُولَ الله؟! قَالَ: "بِبِرِّهَا بِوَالِدَتِهَا"، قَالَ: "كَانَتْ لَهَا أُمٌّ عَجُوزٌ، فَجَاءَهُمُ النَّذِيرُ أَنَّ الْعَدُوَّ يُرِيدُ أَنْ يُغِيرَ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَةَ، فَارْتَحَلُوا لِيَلْحَقُوا بِعَظِيمِ قَوْمِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهَا مَا تَحْمِلُ عَلَيْهِ أُمَّهَا، فَعَمَدَتْ إِلَى أُمِّهَا، فَجَعَلَتْ تَحْمِلُهَا عَلَى ظَهْرِهَا، فَإِذَا أَعْيَتْ وَضَعَتْهَا ثُمَّ أَلْصَقَتْ بَطْنَهَا بِبَطْنِ أُمِّهَا، وَجَعَلَتْ رِجْلَيْهَا تَحْتَ رِجْلَيْ أُمِّهَا مِنَ الرَّمْضَاءِ، حَتَّى نَجَتْ".


 أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَرْزُقَنَا عِلْمًا نَافِعًا، وَعَمَلاً مُتَقَبَّلاً، وَرِزْقًا طَيِّبًا، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاءِ، بَارَكَ الله لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوهَ وَتُوبُوا إِلَيْهِ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَمَرَ بِالاسْتِقَامَةِ، وَوَعَدَ جَزِيلَ الثَّوَابِ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ وَأَشْكُرُهُ، وَشُكْرُهُ وَاجِبٌ عَلَى جَمِيعِ الْعِبَادِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله الْعَزِيزُ الْوَهَّابُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى الله وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، الَّذِينَ تَمَسَّكُوا بِسُنَّتِهِ، وَاسْتَقَامُوا عَلَى دِينِهِ. 

أَمَّا بَعْدُ: 

 عِبَادَ الله: اتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى: (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ) [سورة إِبْرَاهِيمَ الآية: 6]، فَإِنَّ بَعْضًا مِنْ أَبْنَائِنَا فِي هَذَا الزَّمَانِ فَسَدَتْ أَخْلاَقُهُمْ، وَمَاتَتْ مَشَاعِرُهُمْ، وَاضْمَحَلَّتْ عِزَّتُهُمْ، فَأَعْرَضُوا عَنْ وَالِدِيهِمْ، وَأَقْبَلُوا عَلَى زَوْجَاتِهِمْ تَقْلِيدًا لِلْغَرْبِ؛ وَذَلِكَ بِسَبَبِ مَا يُشَاهِدُهُ بَعْضُهُمْ فِي الدِّشِّ وَغَيْرِهِ، مِنْ صُوَرِ نِسَاءٍ فَاتِنَاتٍ، وَأَغَانٍ مُثِيرَةٍ، وَتَمْثِيلِيَّاتٍ مُغْرِضَةٍ، يَقْصِدُ بِهَا الْغَرْبُ الْكَافِرُ تَزْيِينَ الْفَاحِشَةِ، وَتَعْلِيمَ السَّرِقَةِ، وَالتَّدْرِيبَ عَلَى الْجَرِيمَةِ، وَنَبْذَ مَكَارِمِ الأَخْلاَقِ، وَالْعَادَاتِ الْعَرَبِيَّةِ الْكَرِيمَةِ، وَقَدْ قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ"، وَلَكِنَّ أَعْدَاءَنَا الْغَرْبَ الْكَفَرَةَ يَوَدُّونَ أَنْ يَكُونَ أَبْنَاؤُنَا لاَ دِينَ، وَلاَ عَقِيدَةَ، وَلاَ دُنْيَا وَلاَ أَخْلَاقَ، وَلاَ مُرُوءَةَ، وَذَلِكَ فِيمَا يَبُثُّونَهُ فِي إِعْلاَمِهِمْ، وَبَرَامِجِهِمْ، وَيَأْبَى الله إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ. 


 وَلِهَذَا كَثُرَ فِي الأَبْنَاءِ الْعُقُوقُ، فَنَجِدُ أَحَدَهُمْ لاَ يُنَفِّذُ أَمْرَ أُمِّهِ إِلاَّ إِذَا دَعَتْ عَلَيْهِ، وَرَفَعَتْ صَوْتَهَا عَلَيْهِ، وَلاَ يُلَبِّي طَلَبَ أَبِيهِ، إِلاَّ إِذَا عَبَسَ فِي وَجْهِهِ وَقَطَّبَ، وَلاَ يَرْغَبُ فِي السَّكَنِ مَعَ وَالِدَيْهِ، وَهُوَ أَصْلَحُ لَهُ فِي دِينِهِ، وَأَقْصَدُ وَأَوْفَرُ لَهُ فِي دُنْيَاهُ، وَأَهْنَأُ لَهُ فِي عَيْشِهِ، وَقَلَّمَا نَجِدُ وَلَدًا يَكْتَفِي بِإِشَارَةٍ، وَبِفَهْمٍ بِنَظْرَةٍ، وَيَتَّعِظُ بِتَأْدِيبٍ حَسَنٍ.

إِنَّ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- بَلَغَ بِرُّهُ بِأَبِيهِ مَبْلَغًا عَظِيمًا، كَانَ يَدْعُو أَبَاهُ آزَرَ إِلَى الْجَنَّةِ، وَيَدْعُوهُ أَبُوهُ إِلَى النَّارِ، يَدْعُو أَبَاهُ إِلَى عِبَادَةِ الله وَحْدَهُ، وَهُوَ يَدْعُوهُ إِلَى عِبَادَةِ الأَصْنَامِ، يَغْضَبُ أَبُوهُ وَيُهَدِّدُ وَيَتَوَعَّدُ كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: (قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) [سورة مَرْيَمَ الآية: 46]، فَيَأْخُذُهُ إِبْرَاهِيمُ بِالْخُلُقِ وَالرِّفْقِ: (قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) [سورة مَرْيَمَ الآية: 47].


 الله أَكْبَرُ!! مَا أَعْظَمَ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ حِينَ يُقَابِلُ أَبَاهُ الْغَاضِبَ الثَّائِرَ بِالْهُدُوءِ، وَضَبْطِ الأَعْصَابِ، وَالأَنَاةِ!! وَمَا أَجْمَلَ أَنْ يَصِيحَ بِكَ أَبُوكَ ثُمَّ يَتَقَدَّمُ نَحْوَكَ رَافِعًا يَدَهُ لِلضَّرْبِ، وَأَنْتَ تَنْكَبُّ عَلَى قَدَمَيْهِ بِالتَّقْبِيلِ، إِنَّ الْحَيَاةَ دَيْنٌ وَقَضَاءٌ، وَالْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، فَلَقَدْ رَزَقَ الله إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- إِسْمَاعِيلَ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ-، فَبَلَغَ مِنَ الْبِرِّ بِأَبِيهِ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ أَحَدٌ فِي طَاعَةِ الْوَالِدِ، كَمَا ذَكَرَ الله -عَزَّ وَجَلَّ- ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ، فَقَالَ تَعَالَى: (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ) [سورة الصَّافَّاتِ الآية: 101]. 

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ الله تَعَالَى-: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) [سورة الصَّافَّاتِ الآية: 102]، بِمَعْنَى شَبَّ وَارْتَحَلَ وَأَطَاقَ مَا يَفْعَلُهُ أَبُوهُ مِنَ السَّعْيِ وَالْعَمَلِ، (قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى) [سورة الصَّافَّاتِ الآية: 102]، وَرُؤْيَا الأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ، وَإِنَّمَا أَعْلَمَ ابْنَهُ إِسْمَاعِيلَ بِذَلِكَ لِيَكُونَ أَهْوَنَ عَلَيْهِ، وَلِيَخْتَبِرَ صَبْرَهُ وَجَلَدَهُ، وَعَزْمَهُ فِي صََبْرِهِ عَلَى طَاعَةِ الله تَعَالَى، وَطَاعَةِ أَبِيهِ: (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) [سورة الصَّافَّاتِ الآية: 102]، أَيِ امْضِ لِمَا أَمَرَكَ الله مِنْ ذَبْحِي: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ الله مِنَ الصَّابِرِينَ) [سورة الصَّافَّاتِ الآية: 102]، أَيْ سَأَصْبِرُ وَأَحْتَسِبُ ذَلِكَ عِنْدَ الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وَصَدَقَ -صَلَوَاتُ الله وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- فِيمَا وَعَدَ: (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) [سورة الصَّافَّاتِ الىية: 103]، فَلَمَّا تَشَهَّدَا وَذَكَرَا الله تَعَالَى: إِبْرَاهِيمُ عَلَى الذَّبْحِ، وَالْوَلَدُ على شَهَادَةِ الْمَوْتِ، وَقِيلَ: (أَسْلَمَا) يَعْنِي: اسْتَسْلَمَا وَانْقَادَا: إِبْرَاهِيمُ امْتَثَلَ أَمْرَ الله، وَإِسْمَاعِيلُ طَاعَةَ الله وَأَبِيهِ، وَمَعْنَى: (تَلَّهُ لِلْجَبِينِ): أَيْ صَرَعَهُ عَلَى وَجْهِهِ لِيَذْبَحَهُ مِنْ قَفَاهُ، وَلاَ يُشَاهِدُ وَجْهَهُ عِنْدَ ذَبْحِهِ؛ لِيَكُونَ أَهْوَنَ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) [سورة الصَّافَّاتِ الآية: 103]، أَكَبَّهُ عَلَى وَجْهِهِ وَقَالَ: (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) [سورة الصَّافَّاتِ الآية: 103]، وَعَلَى إِسْمَاعِيلَ قَمِيصٌ أَبْيَضُ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَتِي إِنَّهُ لَيْسَ لِي ثَوْبٌ تُكَفِّنُنِي فِيهِ غَيْرُهُ، فَاخْلَعْهُ حَتَّى تُكَفِّنَنِي فِيهِ، فَعَالَجَهُ لِيَخْلَعَهُ، فَنُودِيَ مِنْ خَلْفِهِ (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) [سورة الصَّافَّاتِ الآيتين: 104، 105]، فَالْتَفَتَ إِبْرَاهِيمُ، فَإِذَا بِكَبْشٍ أَقْرَنَ أَعْيَنَ، قَالَ تَعَالَى: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) [سورة الصَّافَّاتِ الآية: 107]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا) [سورة الصَّافَّاتِ الآية: 105]، أَيْ قَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنْ رُؤْيَاكَ بِإِضْجَاعِكَ وَلَدَكَ لِلذَّبْحِ. 


 وَذَكَرَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ أَمَرَّ السِّكِّينَ عَلَى رَقَبَتِهِ فَلَمْ تَقْطَعْ شَيْئًا، بَلْ حَالَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ صَفْحَةٌ مِنْ نُحَاسٍ، وَنُودِيَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) [سورة الصَّافَّاتِ الآية: 105]، أَيْ هَكَذَا نَصْرِفُ عَمَّنْ أَطَاعَنَا الْمَكَارِهَ وَالشَّدَائِدَ، وَنَجْعَلُ لَهُمْ مِنْ أَمْرِهِمْ فَرَجًا وَمَخْرَجًا: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ) [سورة الصَّافَّاتِ الآية: 106]، أَيِ الاخْتِبَارُ الْوَاضِحُ الْجَلِيُّ، حَيْثُ أُمِرَ بِذَبْحِ وَلَدِهِ، فَسَارَعَ إِلَى ذَلِكَ، مُسْتَسْلِمًا لأَمْرِ الله تَعَالَى مُنْقَادًا لِطَاعَتِهِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) [سورة النَّجْمِ الآية: 37]، وَقَالَ تَعَالَى عَنْ أَكْبَرِ إِخْوَةِ يُوسُفَ: (قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ الله وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ الله لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) [سورة يُوسُفَ اآية: 80].


 أَيُّهَا الأَوْلادُ، أَيُّهَا الأَبْنَاءُ: الْوَالِدُ لا يُرْضِيهِ إِلاَّ أَنْ يَرَى مِنِ ابْنِهِ إِقْبَالاً عَلَيْهِ بِقَلْبِهِ وَنَفْسِهِ، وَانْصِيَاعًا مِنْهُ لأَمْرِهِ، وَسَعْيًا لِتَحْقِيقِ مَا يَسُرُّهُ وَيُبْهِجُهُ، وَغَايَةُ الْبِرِّ أَنْ يَقْضِيَ الْوَلَدُ لَهُ حَاجَتَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْأَلَهُ قَضَاءَهَا، وَيُقَدِّمَ إِلَيْهِ مَا لاَ يُبَيِّنُ لَهُ حَاجَتَهُ إِلَيْهِ، وَيُعْطِيَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ، فَرِضَا الْوَالِدَيْنِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، لَئِنْ كَانَ الْمَالُ ذُخْرًا فِي الدُّنْيَا، فَرِضَا الْوَالِدَيْنِ ذُخْرٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، فَالْوَالِدُ شَجَرَةٌ وَارِفَةٌ تَأْوِي إِلَى ظِلِّهَا، وَحِصْنٌ مَنِيعٌ تَلُوذُ بِهِ، وَسَيْفٌ قَاطِعٌ يَذُبُّ عَنْكَ، وَرَاعٍ يَحْمِيكَ، يُسْدِي إِلَيْكَ الْحِكْمَةَ الَّتِي تُبَصِّرُكَ بِشُؤُونِ دِينِكَ وَدُنْيَاكَ، فَإِذَا فَقَدْتَهُ فَقَدْ خَسِرْتَ كُلَّ هَذِهِ النِّعَمِ، وَكَمْ نِعْمَةٍ لاَ يَعْرِفُ الْمَرْءُ قِيمَتَهَا إِلاَّ بَعْدَ زَوَالِهَا.

 أَنْصِفْ أَيُّهَا الْعَاقِلُ: لَوْ أَنَّ أَبَاكَ مَرِضَ يَوْمًا هَلْ تَهْجُرُ فِرَاشَكَ لَيْلاً وَتُعَطِّلُ عَمَلَكَ نَهَارًا، وَتَلْزَمُ سَرِيرَهُ كَمَا لَوْ كُنْتَ أَنْتَ الْمَرِيضَ؟! وَلَوْ أَنَّهُ تَأَخَّرَ سَاعَةً عَنْ مَوْعِدِ حُضُورِهِ إِلَى الدَّارِ مَسَاءَ يَوْمٍ، فَهَلْ تَقْلَقُ عَلَيْهِ وَتَضْطَرِبُ، وَتَحْسِبُ لِتَأَخُّرِهِ أَلْفَ حِسَابٍ كَمَا لَوْ تَأَخَّرْتَ أَنْتَ، كَمْ تُخْطِئُ مَعَهُ فَيَصْفَحَ عَنْكَ؟! وَكَمْ يَرَى مِنْكَ مَا يَسُوؤُهُ فَيَتَغَاضَى عَنْكَ؟! إِنَّ أَبْسَطَ كَلاَمِ الْعُقُوقِ كَلِمَةُ: (أُفٍّ)، وَأَبْسَطَ نَظَرَاتِهِ نَظْرَةُ الْغَضَبِ، وَالِدُكَ أَشْفَقُ النَّاسِ عَلَيْكَ، وَأَرْأَفُهُمْ بِكَ، وَأَكْثَرُهُمْ حُبًّا لَكَ، أَفَيَجُوزُ لِمَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ أَنْ تَعْصِيَ أَمْرَهُ؟! وَمَا يَأْمُرُكَ إِلاَّ بِخَيْرٍ، وَتَتَأَفَّفُ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ وَهُوَ أَدْرَى مِنْكَ بِمَا هُوَ الأَصْلَحُ لَكَ، وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ نَظْرَةَ اشْمِئْزَازٍ إِنْ رَأَيْتَ مِنْهُ مَا لاَ يُرْضِيكَ، لَيْسَ مِنَ الأَدَبِ أَنْ تَرُدَّ يَدَكَ فِي فَمِ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْكَ، أَيْ أَنْ تُجَاوِبَهُ، أَوْ تُصَوِّبَ إِلَيْهِ نَظْرَةَ احْتِقَارٍ وَاسْتِهْتَارٍ، فَكَيْفَ بِأَبِيكَ؟! وَرِضَا الله فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ، وَسَخَطُهُ فِي سَخَطِ الْوَالِدَيْنِ.


 أَيُّهَا الابْنُ: عَلَيْكَ أَنْ تَخْفِضَ صَوْتَكَ، وَتَغُضَّ مِنْ طَرْفِكَ، وَتُلِينَ قَلْبَكَ إِذَا ثَارَ أَبُوكُ وَغَضِبَ، انْظُرْ إِلَى أَبِيكَ نَظْرَةَ الْمُحِبِّ الرَّحِيمِ، الْخَجِلِ الْمُتَوَاضِعِ.

 أَيُّهَا الأَبْنَاءُ: اتَّقُوا اللَّهَ –تَعَالَى- فِي آبَائِكُمْ، وَأَدُّوا إِلَيْهِمْ حُقُوقَهُمْ، وَأَجْهِدُوا أَنْفُسَكُمْ فِي كَسْبِ رِضَاهُمْ، فَهُمُ الَّذِينَ بَذَلُوا أَمْوَالَهُمْ وَأَوْقَاتَهُمْ مِنْ أَجْلِكُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ أَعْطَوْكُمْ مِنْ غَيْرِ مَنٍّ وَلاَ أَذًى، وَيَتَمَنَّونَ طُولَ حَيَاتِكُمْ، وَتُعْطُونَهُمْ -أَيُّهَا الأَبْنَاءُ- مَعَ الْمَنِّ وَالأَذَى، مُتَرَقِّبِينَ لِمَمَاتِهِمْ، أَطِيعُوهُمْ، وَالْتَزِمُوا الأَدَبَ مَعَهُمْ، وَلاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ أَصْوَاتِهِمْ، وَلاَ تَنْظُرُوا إِلَيْهِمْ بِعَيْنِ الْغَضَبِ وَالاشْمِئْزَازِ. وَالله أَعْلَمُ.


عِبَادَ الله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [سورة الأحزاب الآية: 56]، فَأَكْثِرُوا عَلَيْهِ مِنَ الصَّلاَةِ يُعْظِمْ لَكُمْ رَبُّكُمْ بِهَا أَجْرًا؛ فَقَدْ قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاَةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا".

اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّدٍ، صَاحِبِ الْوَجْهِ الأَنْوَرِ، وَالْجَبِينِ الأَزْهَرِ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَعَنِ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِمَنِّكَ وَكَرَمِكَ وَإِحْسَانِكَ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَدَمِّرْ أَعْدَاءَ الدِّينِ، وَانْصُرْ عِبَادَكَ الْمُوَحِّدِينَ، وَاحْمِ حَوْزَةَ الدِّينِ، وَاجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا وَسَائِرَ بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ.

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ، اللَّهُمَّ -يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ- ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ، اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

الختم بالدعاء ...


كانت هذه خطبة عن بر الوالدين وتحريم عقوقهما.

من اعداد والقاء الخطيب ذ.عبدالله بن إبراهيم القرعاوي.

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-