لا عدوى ولا طيرة

«لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ، وَلاَ هَامَةَ وَلاَ صَفَرَ، وَفِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ»
بسم الله الرحمان الرحيم 
 الحمد لله الذي برأ الكائنات، وبسط الأرض ورفع السماوات، أحمده على ما أولى من النعم والخيرات، وأشكره على ما أسدى من العطايا الوافرات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الأفعال والأسماء والصفات، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي أرسله بالهدى والبينات، وأيده بالبراهين والمعجزات، فحارب الخرافات، وعالج الآفات، وقوم الانحرافات، وأبطل ما كان عليه أهل الجاهلية من لمعتقدات الفاسدات، والعادات السيئات، صلوات ربي وسلامه عليه ما تليت الآيات المحكمات، وعلى آله أولى الكرامات، وأصحابه ذوي المقامات والدرجات، وأزواجه الطاهرات الطيبات، ومن تبعهم بإحسان من المؤمنين والمؤمنات. 
 أحبابي في الله: أخرج الشيخان في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَلَا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ» 
 أحبابي في الله: هذا حديث نبوي صحيح، حديث جليل القدر، كثير الخير، عظيم الفائدة، مهم للغاية، لأنه يعالج جانبا من العقيدة، فلا دين لمن لا عقيدة له، وقد أبطل فيه سيد المرسلين الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم، بعض مزاعم أهل الجاهلية الأولى، ونفى فيه عددا من المعتقدات الشائعة في مجتمعهم، تلك المعتقدات التي لا أساس لها من الصحة، ولا سند لها في الحقيقة، وإنما هي من نسج خيالهم، فهي تنافي صريح الإيمان، وتناقض ما جاء به القرآن، فحلق بأمته في سماء العقيدة المتينة الصحيحة، بعيدا عن الأوهام الباطلة، والظنون الفاسدة، والخرافات المتوارثة، والخيالات التي تعبث بعقول الناس، وتعمل على إفساد عقيدتهم، وتجعلهم يتصورون الأمور على عكس صورتها، وينظرون إلى الأشياء على غير حقيقتها، فيثبتون الربوبية لبعض المخلوقات الضعيفة، ويعتقدون تصرفها في الكون، وتأثيرها على حياة الإنسان بالضر والنفع، والسلب والإيجاب، والسعد والنحس، ويسندون الحوادث لليالي والأيام، والشمس والقمر، والكواكب والنجوم، والطيور والشهور، وما علموا أنها مجرد كائنات ومخلوقات يحكمها قدر الله، ويجري عليها قضاؤه، فلا تملك لنفسها فضلا عن غيرها ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا. 
 إخوة الإيمان: لقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم من كل من يؤمن به، ويهتدي بهديه، ذكرا كان أو أنثى، أن يعلم علم اليقين، أن الله عز وجل هو مالك هذا الكون وحده، لا مالك له سواه، ولا ملك له إلا إياه، يدبر أموره، ويسير شئونه، ويحكم فيه ثم لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، ولا معترض على فعله، (يُدَبِّرُ اُ۬لَامْرَ مِنَ اَ۬لسَّمَآءِ الَي اَ۬لَارْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِے يَوْمٖ كَانَ مِقْدَارُهُۥٓ أَلْفَ سَنَةٖ مِّمَّا تَعُدُّونَ) 
 وقد كان الجاهليون يعتقدون تأثير العدوى بنفسها، ويظنون أن المريض ينقل العدوى باختياره إلى الصحيح، بل يعتقدون أن الأمراض كلها لها طابع العدوى والانتقال، فيفرون من المرضى ويعتزلونهم، وينفرون عنهم غيرهم، حتى إنهم لا يكادون يجدون من يخدمهم، ويقوم بتمريضهم، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم وجاء بالسعادة للبشرية، نفى هذا الزعم، وأبطل هذا الاعتقاد فقال: "لا عدوى" نفى أن تكون العدوى تنتقل بنفسها من مصاب إلى سليم دون إرادة الله، ونفى أن يكون للأمراض كلها طابع العدوى، ونفى أن يكون المريض هو الذي يعدي باختياره من يشاء، فالعدوى موجودة لكن ليس بالشكل الذي يراه أهل الجاهلية الأولى، بل بإذن الله وقدرته وإرادته، ولذلك أمر النبي بأخذ الحيطة والحذر من الأمراض المعدية فنهى عن دخول الأمكنة الموبوءة، والخروج منها فقال صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري: «إِذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَدْخُلُوهَا، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهَا» 
 وأمر بالابتعاد عن المصابين بالأمراض المعدية، والأخذ بالاحتياط وأسباب الوقاية فقال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: «فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ» 
 فالعدوى التي نفاها حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديثه هي العدوى التي يعتقدهـا أهل الجاهلية، لا العدوى كلها، فالعدوى ثابتة بالأدلة الصحيحة، والنصوص الصريحة. 
وكان الجاهليون يتطيرون، والتطير هو التشاؤم والتفاؤل بالطيور، اعتقادا منهم أنها تطَّلع على الغيب، وتعرف ما يخبئه المستقبل، فكانوا إذا خرجوا إلى السفر وقضاء الحوائج يترقبون الطيور، بل يتعمدون تنفيرها وإثارتها ليقرؤوا من خلال حركتها وطيرانها نتائج عملهم، فإن أخذت ذات اليمين تبركوا بها ومضوا في سفرهم وحوائجهم، وإن أخذت ذات الشمال رجعوا عن سفرهم وحاجاتهم وتشاءموا بها فكانت تصدهم عن مصالحهم في كثير من الأوقات، فنفى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وأبطله ونهى عنه، وأخبر أنه ليس له تأثير بنفع ولا ضر، ولذلك قال: "ولا طيرة" أي: أن هذا الذي يعتقد في الطيور من كونها تعلم الغيب، وتوحي للإنسان بالخير والشر، لا أساس له من الصحة، وإنما هو مجرد زعم، وخيال ووهم، فالخير والشر، والنحس والسعد، لا ارتباط له بطيران طائر ولا بوقوعه، ولا بانطلاقه ذات اليمين أو ذات الشمال، فالطيور لم تخلق ليتفاءل الناس بها ويتشاءموا، وإنما خلقها الله تعالى لتعبده غدوا وعشيا، وتسبح بحمده بكرة وأصيلا، ولنرى عظمته في خلقها حيث تطير في الجو لا يمسكها أحد غير خالقها ومبدعها، (أَوَلَمْ يَرَوِاْ اِلَي اَ۬لطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَٰٓفَّٰتٖ وَيَقْبِضْنَ* مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اَ۬لرَّحْمَٰنُ* إِنَّهُۥ بِكُلِّ شَےْءِۢ بَصِيرٌ)
 إخواني في الله: فلهذه الغايات خلقت الطيور، ولم تخلق للتفاؤل والتشاؤم والاعتقاد الزائف، ومما يؤسف له أن بعض هذه المعتقدات الجاهلية، والخرافات الباطلة، ما زال لها وجود بين المسلمين، فيعتقدون أن الطيور تَتَنَبَّأُ بالمستقبل، وتخبر بحركتها وصوتها عن الغيب، فيقولون: "خيرا يا طير"، وهذا هو التطير نفسه الذي نهى عنه الإسلام، وأبطله سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وجعله كبيرة من أكبر الآثام، روى أبو داود وابن ماجه عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الطِّيَرَةُ شِرْكٌ وَمَا مِنَّا إِلَّا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ»، وفي الصحيحين من حديث ابي هريرة رضي الله هنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لَا طِيَرَةَ، وَخَيْرُهَا الْفَأْلُ» قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْفَأْلُ؟ قَالَ: «الْكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ يَسْمَعُهَا أَحَدُكُمْ» 
 الفأل الحسن هو الكلمة الطيبة يسمعها المسلم فينشرح صدره، وتطيب نفسه، كأن يكون مريضا فيسمع ما يدل على الشفاء من غير ترقب وانتظار، أما استخراج الفأل من الكتب والمصحف وقراءة الطوالع وخطوط الكف والفنجان والورق والضرب بالحصى وقرعة الأنبياء وغير ذلك مما هو معروف عند متعاطيه فهو محرم شرعا ولا قائل بجوائزه فابتعدوا عنه فإنه من فأل الشيطان، لا من فأل القرآن. 
 أحبابي بي الله: ما من أحد إلا ويلقي إليه الشيطان بالاعتقاد بالتطير والتشاؤم، لكن الإسلام جعل للمسلمين مخرجا من ذلك، فكلما شعر المسلم بأنه تطير أو تشاءم فلينته عن ذلك، وليتعلق بالله عز وجل وليثق به وليتوكل عليه، فكل شيء عنده بمقدار، وبأجل مسمى. 
 هكذا تكون عقيدة المسلم، ثقة بالله، توكل عليه، التجاء إليه، إن أراده بضر فلا يكشفه أحد عنه، وإن أراده برحمة فلا ممسك لها، شعار المؤمن دائما هو: (قُل لَّنْ يُّصِيبَنَآ إِلَّا مَا كَتَبَ اَ۬للَّهُ لَنَا هُوَ مَوْل۪يٰنَا* وَعَلَي اَ۬للَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اِ۬لْمُومِنُونَ) 
 أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين، وصلى الله وسلم وبارك على حبيبنا المصطفى وعلى أله، والحمد لله رب العالمين.

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-