الحياء كله خير

الحياء والإيمان في كف واحد، إذا نزع أحدهما تبعه الآخر
بسم الله الرحمان الرحيم 
 الحمد لله المحمود على كل حال، ونعوذ بالله من حال أهل النار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكبير المتعال، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله جبله ربه على جميل الفعال وكريم الخصال، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه خير صحب وآل، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المآل. 

أما بعد:

  إخواني في الله: إن للآداب والأخلاق صلة وثيقة بعقيدة الأمة ومبادئها، بل هي التجسيد العملي لقيمها ومثلها. الأخلاق والآداب هي عنوان التمسك بالعقيدة، ودليل الالتزام بالمبادئ، والحكم على مقدار الفضل وحسن السيرة راجع إلى الخلق العالي الرفيع، ولا يتم التحلي بالخلق الفاضل والأدب الرفيع إلا بالترويض على نبيل الصفات، وكريم العوائد بالتعليم والتهذيب والاقتداء الحسن. 
  إن الإسلام قد شمل في أخلاقه أحوال المسلم كلها؛ صغيرها وكبيرها، دقيقها وجليلها، فرداً وأسرة ومجتمعاً، فالاستئذان والسلام، والمصافحة والصدق، والتأدب في المزاح والمداعبة، وحفظ حقوق الإخوان، والأدب مع الأقارب والجيران، وصلة الأرحام، وإطعام الطعام، وتجنب الظلم والاحتقار والعدوان، كل ذلك وغيره باب واسع عظيم، وهو ثابت لا يتغير بتغير الزمان ولا بتحول المكان، غير أن لهذا الباب الواسع مفتاحاً، وأن لهذه الأخلاق عنواناً وعليها دليلا.. 
ذلكم هو خلق الحياء من الله والحياء من الناس. 
  إخواني في الله: عندما ترى الرجل يتحرج من فعل ما لا ينبغي ويكسو الخجل وجهه إذا بدر ما لا يليق منه، فاعلم أنه حي الضمير، زكي العنصر نقي المعدن. 
أما اذا رأيته صفيقاً، بليد الشعور، معوج السلوك، لا يبالي ما يأخذ أو يترك، فهو بعيد عن الخير ليس لديه حياء يردعه، ولا وازع يمنعه، يقع في الآثام، ويسف في ارتكاب الدنايا. 
إن المرء حين يفقد حياءه يتدرج من سيئ إلى أسوأ، ويهبط من رذيلة إلى أرذل، ولا يزال يهوي حتى ينحدر إلى الدركات السفلى، وهذا ترتيب دقيق لأمراض النفوس. خطوات سيئة تقود إلى خطوات أشد منها نكراً. 
  إخوة الإيمان: إن الحياء والإيمان في كف واحد، إذا نزع أحدهما تبعه الآخر، مَرَّ حبيبنا المصطفى عَلَى رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ، وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الحَيَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعْهُ فَإنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الْإِيمَانِ» 
  أحبابي في الله: إن من أعظم ما نَستحيي منه ربنا جل في علاه، مُغدِقِ النعم ومسديها، ولا يتولد هذا الحياء إلا حين يطالع العبد نعم الله عليه، ويتفكر فيها، ويدرك تمامها وشمولها، ثم يراجع نفسه ويحاسبها على التقصير، ويخجل من ربه، ولاسيما إذا رُزق العبد توفيقاً فأدرك عظمة الله، وإحاطته، واطلاعه على عباده، وقربه منهم، وعلمه بخائنة الأعين وما تخفي الصدور، يقول الجنيد رحمه الله: (الحياء رؤية النعم ورؤية التقصير، فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء)، ويقول بعض السلف: (خَفِ الله على قَدرِ قدرته عليك واستَحْيِ منه على قدر قربه منك)، وقد أمر النبي أصحابه أن يستحيوا من الله حق الحياء فقالوا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالحَمْدُ لِلَّهِ، قَالَ: «لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنَّ الاِسْتِحْيَاءَ مِنَ اللهِ حَقَّ الحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْتَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنَ اللهِ حَقَّ الحَيَاءِ».
  أحبابي في الله: ومن الحياء أن يطهر المسلم لسانه من الفحش ومعيب الألفاظ، فإن من سوء الأدب أن تصدر الكلمة البذيئة من المرء غير عابئ بمواقعها وآثارها، ومن الحياء القصد في الحديث في المجالس، فمن أطلق للسانه العنان فإنه لا يسلم من التزيد، ولا ينجو من الادعاء والرياء. 
  ومن الحياء أن يتوقى الإنسان ويتحاشى أن يؤثر عنه سوء، أو تتلطخ سمعته بما لا يليق، وليبق بعيداً عن موارد الشبه ومواطن الإشاعات السيئة، ومن الحياء محافظة المرأة المسلمة على كرامتها وحشمتها، ومراقبة ربها، وحفظ حق زوجها، والبعد عن مسالك الريبة ومواطن الرذيلة، لئلا يغيض ماء الحياء ويذهب بالعفاف والبهاء، فاتقين الله يا نساء المؤمنين، والزمن العفاف والحياء فذلك خير وأبقى. 
  وإن من الحياء إخواني في الله أن يعرف لأصحاب الحقوق منازلهم ومراتبهم، فيؤتى كل ذي فضل فضله، فالابن يوقر أباه، والتلميذ يحترم المعلم، والصغير يتأدب مع الكبير، ويقابل الحياء البذاء والجفاء، ومنزوعُ الحياء لا تراه إلا على قبح، ولا تسمع منه إلا لغواً وتأثيماً، عين غمازة، ونفس همازة، ولسان بذيء؛ يتركه الناس اتقاء فحشه، مجالسته شر، وصحبته ضر، وفعله عدوان، وحديثه بذاء، ومن لا حياء له لا إيمان له. 
  إخوة الإيمان : إن الحياء خير كله، إن الحياء من اتصف به كان له شعبة من شعب الإيمان، ومن ضل عنه أو فقده تردى حتى يكون من جملة الحيوان، إن الحياء مطلب شرعي بل هو خلق الإسلام، روى إمامنا مالك رحمه الله عَنْ يَزِيدَ بْنِ طَلْحَةَ الرُّكَانَيِّ رضي الله عنه، أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لِكُلِّ دِينٍ خُلُقٌ، وَخُلُقُ الْإِسْلَامِ الْحَيَاءُ» 
وما هو إلا تغير وانكسار وانقباض يعتري النفس الإنسانية من الخوف مما يعاب به، وقيل هو ماء الوجه. وأنشد البغدادي: 
إذا قل ماء الوجه قل حياؤه * ولا خير في وجه إذا قل ماؤه 
حياءك فاحفظه عليك فإنما * يدل على وجه الكريم حياؤه
  والحياء خلق جميل يحول بين الإنسان وارتكاب المعاصي والآثام ويمنعه من التقصير في حق المولى جل وعلا، يقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» 
وقد أحسن من قال: 
 إذا رزق الفتى وجهاً وقاحاً * تقلب في الأمور كما يشاء 
 ولم يك للدواء ولا لشيء * يعالجه به فيه عناء 
 فمالك للدواء في معاتبة الذي* لا حياء لوجهه إلا العناء 
  أحبتي في الله: الحياء صفة من صفات الله عز وجل: قال ابن القيم: "وأما حياء الرب تعالى من عبده، فذاك نوع آخر، لا تدركه الأفهام، ولا تكتفيه العقول، فإنه حياء كرم وبر وجود وجلال فإنه تبارك وتعالى حيي كريم، يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً، ويستحي أن يعذب ذا شيبة شابت في الإسلام". 
  فلنتق الله احبابي في الله: ولنلزم الحياء والعفاف، فهو الباعث على فعل الطاعات وترك القبائح والمنكرات، هو المانع من التقصير في الشكر، وعرفان الجميل، والتفريط في حق كل ذي حق. 
  وصل اللهم وسلم وبارك على حبيبنا المصطفى وعلى آله وصحبه، والحمد لله رب العالمين. 
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-